تسير التنمية الاقتصادية في مناطق كثيرة من العالم في اتجاه واحد منذ انطلاق الثورة الصناعية، وهو "المجتمع الاستهلاكي". فقد تمحور النمو الاقتصادي حول نموذج "الأخذ والصنع والاستخدام والهدر"، حيث نأخذ الموارد من الأرض ونصنع المنتجات ونتخلص منها كنفايات عندما تنتفي الحاجة إليها.
ولكن لهذا النهج القائم على الهدر بديل يتمثّل بالاقتصاد الدائري. ويقوم هذا النموذج على الفصل بين استخدام الموارد والنمو الاقتصادي ويرتكز على ثلاثة مبادئ هي القضاء على النفايات والتلوث، والحفاظ على المنتجات والمواد المستخدمة، وتجديد الأنظمة الطبيعية.
وأنا أرى شخصياً أنّ الاقتصاد الدائري يمثل فرصة كبيرة بالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فبناء دورات اقتصاد دائري في بعض المناطق التي تنتج أكبر قدر من النفايات سيفيد المواطنين والحكومات والمؤسسات المحلية والشركات متعددة الجنسيات التي لها حضور واسع في هذه الأسواق. كما أنه يوفر فرصاً استثمارية ولكنّ تعزيزها يتطلب منا العمل معاً بدلاً من العمل بمعزل عن الآخرين.
التحديات الإقليمية
رغم أنّ منطقتنا تتسم بتنوعها، إلا أن مسار نموها الاقتصادي القوي يحتّم علينا مواجهة عدد من التحديات التي تعترض الاقتصادات الأخرى سريعة النمو. ويعتبر البناء أحد أكبر مصادر النفايات في العالم وأكثر قطاع منتج للنفايات الحضرية في دول مجلس التعاون الخليجي. كما أنّ إمدادات المياه في المنطقة تعاني من ضغوط شديدة والأراضي الصالحة للزراعة نادرة. وينتج عن هذا كله اعتماد كبير على الواردات الغذائية العالمية وإمكانية محدودة لزيادة إنتاج الغذاء من خلال طرق الزراعة التقليدية.
بالمقابل، يقدّر هدر الأغذية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بـ250 كيلوغراماً للفرد وتتجاوز قيمته أكثر من 60 مليار دولار أمريكي سنوياً. ويشمل هدر الأطعمة وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة كامل سلسلة القيمة، بدءاً من الإنتاج وحتى الاستهلاك. كذلك، تبقى معدلات إعادة التدوير منخفضة خاصة في دول مجلس التعاون الخليجي. في هذا السياق، تسعى مصر إلى بلوغ معدل إعادة تدوير القمامة فيها نسبة 80% خلال السنوات السبع المقبلة، ولكن في أجزاء كثيرة من المنطقة، يقتصر جمع النفايات وإعادة تدويرها على قطاع غير رسمي.
الفرصة
من الواضح أنه يمكن لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تحدّ من مشكلة النفايات بشكل كبير من خلال اعتماد النموذج الدائري. فبحسب دراسة أجرتها برايس ووترهاوس كوبرز، يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي وحدها أن تخفض انبعاثاتها الكربونية بمعدل 150 مليون طن، ويمكن بلوغ نسبة كبيرة من هذا المعدل من خلال توفير الكهرباء.
وتتوقع برايس ووترهاوس كوبرز إمكانية تحقيق وفورات تقارب 138 مليار دولار بحلول عام 2030، ما يعادل 1% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي التراكمي لدول مجلس التعاون الخليجي بين عامي 2020 و2030. ويعزى ذلك إلى حد كبير إلى تحقيق كفاءات كبيرة في الموارد والطاقة، مما يساعد المنطقة على تحسين استخدام مواردها الطبيعية الشحيحة وإمدادات المياه والأراضي الصالحة للزراعة المتناقصة، مما يعود بالفائدة على الأمن الغذائي للمنطقة.
ليس مفاجئاً أن يوفّر الاقتصاد الدائري أيضاً مصادر إيرادات وفرص أعمال جديدة للمؤسسات القائمة والشركات الناشئة على حدّ سواء. ولهذا تأثير إيجابي يتمثل بإتاحة فرص عمل جديدة وهادفة تستفيد منها المجتمعات المحلية.
نهج تعاونيّ
نظراً لحجم الإمكانيات غير المستغلّة، لا بدّ من إدراك أنه لا يمكن التوصل إلى الاقتصاد الدائري من دون العمل مع الآخرين. ويتطلب الأمر نهجاً تعاونياً بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من جهة وبين المستثمرين والحكومات والمؤسسات الخاصة من جهة أخرى والتي تُجمع على الفائدة التي يمكن أن يحققها الاقتصاد الدائري لأفراد المجتمع والكوكب.
وكانت برايس ووترهاوس كوبرز قد سلّطت الضوء على الدول التي تبنت إستراتيجيات دائرية شاملة واعتبرت الصين وفرنسا وهولندا أمثلة لافتة يتعين على دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أخذها بعين الاعتبار. وتبرز أمثلة كثيرة عن الضرائب أو الحوافز الضريبية التي تدعم الاقتصاد الدائري. فقد فرضت الدانمارك ضريبة على المواد الخام وألغت الصين ضريبة القيمة المضافة على السلع المصنوعة من المواد المعاد تدويرها. ويتعين على مسؤولي المشتريات العامة في الوقت ذاته أداء دور مهم في زيادة الطلب على المنتجات المعاد تصنيعها من خلال المناقصات.
هذا وتؤدي الشركات دوراً أساسياً في تمكين العملاء من الاستهلاك بمسؤولية والحرص على اتباع المورّدين والشركاء أعلى معايير الاستدامة. وقد تبنّت ماجد الفطيم هذا النهج من خلال إستراتيجية الاقتصاد الدائري التي أطلقتها مؤخراً والتي ستدرج بموجبها كل شركة من شركاتها العاملة مبادئ الاقتصاد الدائري في عملياتها. وستتميز كافة الشركات العاملة باتباع مبدأ الدائرية بحلول عام 2030 بحيث تنشط في التفاعل مع المورّدين والعملاء ومجتمعات الأعمال الأوسع والحكومات من أجل إحداث تغيير وتأثير منهجي.
ويعدّ التعاون مع الموردين والعملاء في مختلف القطاعات السبيل الوحيد لبناء اقتصاد دائري تعود فوائده على كافة شرائح المجتمع، وهنا يبرز دور مهم للشركات متعددة الجنسيات التي تتمتع بقاعدة متينة في المنطقة حيث يمكنها أن تشكّل قدوة لغيرها من خلال اتباع أفضل الممارسات المعتمدة في أسواقها المحلية.
وتبرز أيضاً فرصة أمام منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للاستفادة من اهتمام المستثمرين الدوليين المتزايد بالحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات. ويظهر ذلك من خلال الإطلاق الناجح لعدد من الصكوك الخضراء، بما في ذلك السندات الخضراء لشركة ماجد الفطيم البالغة قيمتها 1.2 مليار دولار أمريكي والسندات الخضراء للشركة السعودية للكهرباء والبالغة 1.3 مليار دولار أمريكي، والتي تم تجاوز الاكتتاب فيها بشكل كبير.
لكن يتعين على المزيد من الحكومات المشاركة من أجل دعم هذا التوجّه والمبادرة إلى اتخاذ خطوات مثل مصر التي أصدرت أول صكوك خضراء على الإطلاق في أكتوبر وكذلك البنك الإسلامي للتنمية في المملكة العربية السعودية الذي أصدر أول صكوك خضراء في تاريخه في نوفمبر.
لدى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فرصة لمجاراة التقدم الذي أحرزته مناطق أخرى من العالم إذا تحلّت الشركات الرائدة والهيئات العامة والمستثمرون لدينا بالشجاعة لاتخاذ الإجراءات اللازمة، وسنلمس تأثيراً إيجابياً متنامياً مع انضمام المزيد من الشركاء إلى الكفاح ضد تغيّر المناخ. وفي هذه الحال فقط يمكننا ضمان مستقبل مستدام لمنطقتنا.
تم نشر هذه المقالة لأول مرة في aliqtisadi.com